الجمعة، 28 أكتوبر 2011

فاقوس و الأوبرا الخديوية

في ميدان الاوبرا‏..‏ وفي مثل هذا اليوم الثامن والعشرين من أكتوبر عام‏1971‏ منذ أربعين عاما بالتمام والكمال‏...‏ أسدل الستار المخملي للمرة الأخيرة علي أخر العروض الفخيمة لدار الاوبرا الملكية المصرية وأغلقت أبواب أهم مسرح في تاريخ مصر المحروسة للأبد بعد أن نال حريق ضخم من كيانها الارستقراطي الجميل لتطفأ الانوار ولتصبح قصة دار الاوبرا الملكية حين نتحدث عنها مجرد قصة من الزمن الجميل. ففي مثل هذا اليوم وصفت جريدة الاهرام في عهد رئاسة الأستاذ محمد حسنين هيكل حريق الاوبرا بالمروع الذي استطاع في ساعتين فقط ان يدمرها قبل18 ساعة فقط من بدء موسم عالمي كبير إحتفالا بمرور مائة سنة علي إنشائها,102 سنة علي وجه التحديد. وقد التهمت النيران مخازن الديكور والملابس التي قدرت في آخر جرد لها ب4 ملايين من الجنيهات ومن بينها أشياء لا تقدر بأي قيمة معنوية وان كانت ترفع الرقم إلي حوالي10 ملايين من الجنيهات.وحددت الصحفية ليلي القباني عدد40 ألف قطعة ملابس من مختلف العصور مشغولة بخيوط من الذهب والفضة والاحجار الكريمة و4200 قطعة حلي و3آلاف قطعة سلاح إلي جانب مخازن الاثاث التي تضم3 آلاف قطعة أثاث.
بالفعل وكما قرأت تحولت دار الاوبرا إلي قطعة من الرماد وهو مصير لم يكن متصورا لهذه التحفة المعمارية التي يمكن أن أصفها اليوم بالجواد الجميل صاحب التجربة المتميزة و التي مثلت أكبر إنعطافة علي الطريق تجاه تحديث مصر في زمن الخديو إسماعيل.
فهذا الرجل الذي كان يمثل هو الآخر طرازا خاصا من الحكام الشرقيين وكانت له أحلامه السبع لتحويل مدينة القاهرة في فترة زمنية وجيزة إلي قطعة من باريس, وكان من بين تفاصيل حلمه إنشاء دار للأوبرا الملكية تشبه تلك التي رأها في بلاد النور.
وصحيح انها لم تكن الخطوة الأولي للخديو حيث انه قد سبقها بعام واحد إنشاء أول مسرح في مصر وهو المسرح الكوميدي بالأزبكية. ولكن يبقي هذا المكان شاهدا علي طموح أكبرصاحب إحتفالات إفتتاح قناة السويس.
والحقيقة التي تذكرها نشرة كانت قد صدرت عام1945 في عهد الملك فاروق تتعرض لتاريخ الخديو إسماعيل أن دار الاوبرا الخديوية أو الملكية قد أنشئت عقب صدور قرار حازم ومشجع من الخديو إسماعيل للمهندسين الإيطاليين أفوسكاني وروسي لتشييد دار للأوبرا علي أرقي طراز فني يتفوق علي الطرز الموجودة بالفعل في الدور الأوروبية في مدة لا تزيد عن الستة أشهر في منطقة بالقاهرة تتوسط حي الأزبكية وحي الإسماعيلية.
وهو ما يعني أن الرؤية الجديدة للعاصمة بل ولبر مصر المحروسة كانت قد بدت تتضح ملامحها في عقل الخديوي الذي أصبحت مهمته في هذه الدنيا تحويل الأحلام إلي واقع وحقيقة.
وفي الوقت نفسه لم تكن دار الأوبرا مجرد مكان جديد يغلب عليه المعمار الغربي ويقف كعلامة للقاهرة الجديدة ومنطقة وسط البلد التي أبدع فيها الخديو إسماعيل, ولكنها كانت أيضا صاحبة مضمون جديد ورسالة.
فقد كان الخديو أكثر العارفين بأنه من ضمن الأسئلة التي ستوجه إليه ستكون عن معني وجود دار للفن كل مهمته استعراض فن أستوردته مصر من إيطاليا. فصحيح أن هذا الفن معروف في أوروبا كلها ولكنه قد لايعني شيئا للمواطن المصري الذي تبدو أولوياته في الحياة مختلفة والذي لو خير لما رضي بوجود دار لهذا الفن في بر مصر من حال الأصل.
إلا أن الإجابة كانت جاهزة في ذهن الخديو بتكليفه مارييت باشا الأثري ومؤسس المتحف المصري-بالبحث عن قصة في زمن مصر القديمة تصلح لأن تكون مراجعة للتاريخ المصري الفخيم تأخذ بلب ملوك وأمراء أوروبا الذين سيحضرون حفل افتتاح قناة السويس. ولم يكن هناك أفهم من الموسيقار فردي لمثل هذه المهمة التي أعتبرها الخديو إسماعيل مهمة وطنية في حقيقة الأمر وأخذها بمأخذ الجد حتي تحقق له ما أراد في صورة أوبرا صاحبة ملامح وموضوع مصري صميم وهي أوبرا عايدة والتي للأسف لم تكن هي رواية الافتتاح بل أوبرا ريجوليتو وإن كانت عايدة قد ظهرت علي خشبة المسرح بعدها بعامين وتحديدا في عام1871 أي منذ مائة وأربعين عاما.
وهكذا ولدت دار الاوبرا بأكبر مساحة خصصت للمسرح وببناء خلف المسرح من ثلاثة طوابق علي أن يخصص الطابق الأسفل لملابس الممثلين, في حين يختص الطابق الثاني بمخزن للديكورات له باب حديد يعمل بطريقة آلية, بينما كان حفظ الملابس والآثاثات من نصيب الطابق الثالث. ويقال والعهدة علي النشرة المذكورة أن هذا الطابق وحده كان يعد ثروة فنية لا تقل أهميتها عما يحويه أغني المتاحف. ففيه الملابس التاريخية التي صنعها مهرة الصناع وفيه أنواع السلاح من دروع وخوذات وسيوف وبنادق وسائر أدوات القتال,وكذلك الحلي المتقنة والأثاث الدقيق الصنع.
أما المفاجآة الكبري فكانت في وجود مصنع للأثاث داخل الاوبرا الخديوية بالاضافة إلي مكان استخدم كمشغل لحياكة الملابس يعتقد انه كان يقع في أحد أقسام الطابق الثالث من البناء الخلفي.
وأما المفاجأة الأخري التي حدثت في هذا المكان أنه لم يقصر نشاطه فقط علي فن الاوبرا منذ البداية فهو صاحب أيادي بيضاء علي فن المسرح العربي حيث قدمت علي خشبة الاوبرا عام1878 أول مسرحية عربية في حضور الخديو إسماعيل الذي كان يريد أن يؤكد مكانة الموسيقي والمسرح العربي ولم يكن كما قيل عنه مجرد مهووس بالفن والحضارة الأوروبية.
أوبرا مصرية
ورغم ان ما حدث في عصر إسماعيل منذ بدايته إلي النهاية يعد قصة لم تكن متوقعة فإن حركة أخري تمصيرية صاحبت إنشاء الاوبرا. فمن خلال مجموعة رائدة من الشخصيات المصرية التي تولت مسئوليتها كان هناك بحثا عن لغة مصرية داخل أركان المكان.وبالطبع لم يكن أول من أشرف علي دار الاوبرا مصريا. ويذكر التاريخ انه كان بافلوس وهورجل يوناني يعود الفضل إليه في بدايات التعامل مع هذا الكيان الجديد, ثم أعقبه الموسيقي بسكوالي كلمنته الذي استمر في مهمته حتي بدايات القرن العشرين, وبعدهما جاء جنارو فورنانو ليستمر عشرين عاما كاملا, ثم نورتاتوتو كانتوني حتي عام1937, لتدور بعدها الاوبرا في المدار المصري بعد أن تولي رئاستها منصور غانم ليترك مقعده بعد عام واحد ويحل الممثل سليمان بك نجيب مكانه ويستمر حتي بعد قيام ثورة يوليو بعامين.
ويأتي من بعدهما مجموعة أخري من الرؤساء المصريين أمثال الشاعر عبد الرحمن صدقي والمهندس محمود النحاس ثم صالح عبدون الذي نتوقف عنده بوصفه أهم من أرخ لهذه التجربة الفريدة في سيرته الذاتية خمسون عاما من الموسيقي والاوبرا.
و يمكن أن نقترب من السطور لنفهم معني العلاقة بالاوبرا في هذا الوقت المبكر بين المثقفين المصريين, فكما يقول الفنان صالح عبدون... ولدت في قرية كان مطربها وقارئها الشيخ أبو علاوي أحد الذين يجمعون بين حسن الصوت ومهارة العزف
و قد نجح في الصعود مبكرا بالالحان العربية إلي خشبة المسرح بدار الاوبرا الخديوية في أوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر مثله مثل الشيخ سعيد الدسوقي والشيخ الدسوقي بدر. كانت فرقة الشرطة للموسيقي النحاسية تبدو كفروع متواضعة من الموسيقات العسكرية العريقة في عصر محمد علي , وشاركت منها في عصر إسماعيل مجموعة من المواطنين بقيادتها مثل أبو الخير أفندي و الذى شارك في العروض الأولي لأوبرا عايدة. وكانت هذه الفرقة تقدم برامجها الأسبوعية بعد ظهر الأحد والجمعة في حديقتين صغيرتين علي شاطئ بحر فاقوس.
وأما حفل المدرسة وبمشاركة المدارس الأخري بالقاهرة فقد كان يقام بدار الاوبرا عندما قادنا الفنان الكبير زكي طليمات إليها من الباب الخلفي عام.1941 وقد بدا أعجابنا بهذا الاطار الهائل للموسيقي العظيمة وغير المألوفة في حياتنا الفنية وكان ذلك بقيادة محمد حسن الشجاعي.
ففي هذا الزمن الذي عاش فيه صالح عبدون شبابه ومسئوليته كانت توجد قائمة طويلة من المحفزات للوصول إلي نشاط ثقافي متميز كان يغمر بعطره أرجاء المجتمع القاهري المتميز وتشترك فيها: جمعية الموسيقي المصرية ومكتبة الفن في ركن من متحف الفن الحديث بميدان التحرير وكان المبني في الاساس قصرا للسيدة هدي شعراوي بالاضافة إلي القسم الاوروبي بالاذاعة ومجلة راديوموند صاحبة الرسالة الثقافية في التعريف بالموسيقي العالمية والجمعية المصرية لهواة الموسيقي التي كانت تهدف إلي ترجمة الأغاني الاوبرالية إلي اللغة العربية وجماعة نشر الثقافة الموسيقية في شارع طلعت حرب.
ووسط شريط الذكريات يذكر الفنان صالح عبدون حقيقة مهمة وهي ما رأته وزارة الثقافة في أوائل الستينات من إعداد لمشروع كبير لإنشاء دار جديدة للأوبرا في القاهرة وذلك بعد أن تهالكت الدار القديمة مع قرب بلوغها القرن من الزمان. وتحقيقا لمشروع إقامة الدار الجديدة في أكمل صورة طلبت الوزارة من منظمة اليونسكو في باريس ترشيح أفضل من يتولي مهمة التصميم من المهندسين. ووقع بالفعل الاختيار علي الألماني بورنمان للوصل إلي نفس مستوي الاوبرا الجديدة بمدينة برلين الغربية.
ووضع بالفعل ثروت عكاشة حجر الاساس في يوليو1962 بحديقة الحرية علي شاطئ النيل في مواجهة نافورة المياه المقامة وسط مجري النهر في تلك البقعة.
وعقب تعديل وزاري ضعف الاهتمام بالمشروع ولم ينفذ رغم أهميته كما يقول صالح عبدون, وما أنجز فيه من جهود في التصميم وما تكلف من نفقات تحملتها الدولة وأقيم في موقعه شيراتون الجزيرة.
رؤي مختلفة
ومع ما تحمله فكرة وجود دار أخري للاوبرا من الجدل فإن إعادة دار الاوبرا الخديوية للحياة كما قال لي الدكتور يحيي الزيني أستاذ العمارة بكلية الفنون الجميلة تحمل الكثير من الطموح. فكيف نترك دارا عريقة للاوبرا ولا نحاول إعداتها للحياة مرة أخري. ففي أوروبا قبل منتصف القرن العشرين وتحديدا في عام1945 تعرض الكثير من دور الاوبرا والمباني التاريخية ذات الشهرة والدلالة المعمارية للقصف, إلا ان هذا لم يكن يعني بأي شكل نزول تتر النهاية علي تاريخها بل بالعكس قررت هذه الدول الأوروبية أن تعيد بناء هذه المباني وفي نفس مكانها. ولهذا فاعتقد أن حلم عودة الاوبرا بشكلها وملامحها المتميزة غير بعيد. ففي أوروبا يمكن أن تجد في بلد واحد أكثر من دار للأوبرا ولكنهم لا يستغنون أبدا عن الدار القديمة لأنها تراث خاص.
أما الدكتورة سهير حواس أستاذ العمارة ورئيس الإدارة المركزية للدراسات والبحوث والسياسات بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري وصاحبة موسوعة القاهرة الخديوية فتري انه كانت هناك بالفعل مسابقة مطروحة لميداني العتبة والاوبرا وكان من ضمن المعطيات فكرة إعادة بناء الاوبرا في هذا الموقع وكانت متروكة للمتسابقين لتكون لهم رؤية أخري. ومن وجهة نظري الخاصة ان بناء الاوبرا كما كانت كان لابد وأن يتم بعد احتراقها مباشرة بفترة قصيرة كنوع من الحفاظ علي ذاكرة المدينة. ولا نريد ان ننسي ان لدينا الآن أوبرا أخري في موقع جيد. واسترجاع ذاكرة التاريخ لا يكون باسترجاع مبني فقط. والاوبرا الخديوية كانت مؤسسة من الخشب وجاءت كأجزاء من إيطاليا والاعجاز فيها كان طبيعة إنشائها والسرعة التي أنشئت بها في وقت لا يتجاوز الستة أشهر. وفقد مبني تراثي بشكل عام ليس بالأمر الهين, ففقد مبني تراثي أشبهه بفقد شخص عظيم. ولابد أن تكون هناك كتب تتناول المباني التراثية المهمة. فشكل الاوبرا القديم لم تطلع عليه عدة أجيال, فأربعون عاما يعني وجود أربعة أجيال لم تر هذا المبني الفخيم. فالرجل الذي يبلغ الاربعين من عمره الآن بالتأكيد لم ير في الواقع دار الاوبرا الخديوية.
أمل جديد
ورغم أن القصة في الاصل تخص دار الاوبرا الملكية إلا اننا لا نستطيع أن نغفل وجود دار أخري للاوبرا في بر مصر الآن تقع في أرض الجزيرة بدأت مشوارها في أكتوبرأيضا عام1988 تحت اسم دار الاوبرا أو المركز الثقافي القومي وهي بداية إهداء خاص من اليابان والهدف المصري هو إكمال الطريق أو الخيط الذي أنقطع منذ بداية السبعينات ليكون هذا الشهر شاهدا علي بداية ووصل حلم. في الاوبرا الجديدة يتواصل الفن والجمهور مع فرق الاوبرا والباليه وأوركسترا القاهرة السيمفوني وفرقة عبد الحليم نويرة وأوركسترا أوبرا القاهرة والفرقة القومية العربية وأوبرا الاسكندرية والانشاد الديني والموسيقي العربية للتراث والرقص المسرحي الحديث وكورال أوبرا القاهرة وكورال الاطفال.
وهي سلسلة تشبه تلك التي بدأ بها الاهتمام بالفن الاوبرالي والتي حكي عنها صالح عبدون في مذكراته... ويبقي السؤال هل يعود للاوبرا جمهورها وهل تشهد محاولات تمصير لفنها كما حدث في فيلم عايدة لأم كلثوم ومجنون ليلي لعبد الوهاب..وهل تصبح ذات رسالة للمسرح والموسيقي العربية. فالآن نتذكر حريق الاوبرا في ذكراه الاربعين ووفاة فيردي مؤلف أوبرا عايدة المائة وعشرة, ونحتفل بمرور ثلاثة وعشرين عاما علي الاوبرا الجديدة... فهل هي مجرد أرقام في الذاكرة المصرية؟!